وباء نمبر وان .. كيف تحول المهرج إلى أسطورة والأسطورة إلى وباء؟
ليس غريباً أن يثير محمد رمضان جدلاً جديداً، فهذه مهنته الأولى قبل أن يكون ممثلاً. ما يثير الدهشة حقاً هو استمرار تعاملنا مع كل "خرجة" له كحادثة معزولة، وكأننا نُفاجأ في كل مرة بأن النار تحرق والسُمّ يقتل. بينما الحقيقة أننا أمام ظاهرة مركّبة ومصمّمة بعناية، منظومة متكاملة لصناعة "قدوة" مخصوصة تشبه الفأر المصاب بالطاعون: لا تكتفي بأن تموت وحدها، بل تنشر العدوى في جسد المجتمع كله. "لا تجادل الأحمق، فقد يخطف الترند"، تلك هي الوصية العظمى في عصر السوشيال ميديا. غير أن محمد رمضان تجاوز مرحلة الأحمق الذي يخطف الترند إلى صانع للترند الذي يخطف وعي مجتمع بأكمله. ذاك أنّ بين عبده موتة ورفاعة الدسوقي وبلطجي الأسمرات وصاحب "الصديرية" الذهبية في كوتشيلا، ثمة خيط واحد لا ينقطع: إعلاء العنف فوق القانون، والعضلات فوق العقل، والمال فوق الكرامة. استراتيجية أشبه بحصار طروادة الثقافي، حيث يُدخَل حصان البلطجة الخشبي إلى قلعة المجتمع، لينقضّ في الليل على أخلاقه النائمة ويذبحها واحدة تلو الأخرى. لهذه الظاهرة مُهندسون، بلا شك، ذاك أنّ المصادفة عاجزة عن صناعة "نمبر وان" من عدم، كما تعجز الصحراء عن إنتاج محيط. فما بدأ قبل عشر سنوات بتقديم "بطل بلطجي- سرسجي" من فتى حي فقير، اكتمل اليوم بتحوّل ذلك الفتى إلى ملهم للمراهقين وصانع لثقافة بديلة كالسرطان: تلتهم النسيج السليم وتستبدله بخلايا مشوّهة، حيث العلم يُستبدل بالثروة المفاجئة، والاحترام بالترهيب، والإنجاز بالاستعراض الأجوف. حين ظهر محمد رمضان في مهرجان كوتشيلا 2025، لم يحتفل المصريون بأول فنان يرفع علم بلدهم على منصة عالمية؛ بل انهالوا عليه بالسخرية لأن إطلالته بدت كراقصة في كباريه شعبي تتنكر في عيد الهالوين؛ أو كما وصفه مرتضى منصور ب "الراقصة الزنجية". سلسلة ذهبية، سترة مفتوحة، استعراض بلا مضمون؛ مشهدٌ يشبه لو أن قرداً ارتدى ثوب الملك وظن نفسه نابليون، أو كنسخة ملوّثة من توت عنخ آمون بعد إخراجه من مقبرته ليؤدي عرضاً في ديسكو متهالك. ما شأن الفراعنة بصديرية لامعة تشبه بدلة راقصة في ملهى ليلي؟ هل حقاً وجدت المصممة المصرية "التراث الفرعوني" متجسداً في هذا اللباس المهين؟ أم أنّ حسن التقدير مشترط للحصول على عقد مع نمبر وان، والعقد يقتضي الصمت عن الحقيقة المرّة: أنّ هذا اللباس يجسّد "الفهلوة" لا الحضارة، والتبذّل لا العمق، والاستعراض لا الإبداع، تماماً كما يجسّد الدِمَّل بثوراً قيحية لا زهوراً عطرية. قالها بعضهم بمرارة تشبه طعم العلقم: "لقد صدّرنا للعالم صورة مصر كما لم يفعل الاستعمار البريطاني نفسه". وفي حين اكتفت النقابات الفنية بالتحقيقات الصامتة والتصريحات المتحفظة – كمن يضع ضمادة على جثة ميتة – كانت مواقع التواصل تغلي كمرجل على النار: تهكم، غضب، وشعور بالخجل الجماعي من رفعه لعلم مصر بهذا اللباس المُخنث والأداء المايع. لكنه، وكعادته، تعامل مع الفضيحة كفرصة دعائية، مقارنًا نفسه بالبطيخ؛ أخضر من الخارج كدعم واتساب، وأحمر من الداخل كيوتيوب! وكأن ما فعله فنٌ يُؤكل بالقشور، أو كقواد يتباهى بعلامات تجارته على جسد ضحاياه. بيد أنّ محمد رمضان لا يُخفي نرجسيته، بل يتاجر بها كمن يبيع لحم الخنزير في سوق المسلمين. من "أنا نمبر وان" إلى "أنا مصر"، كل جملة عنده مزيج من تضخم الذات ونرجسية السوق. يستعرض ثروته كمن يلقي العظام للكلاب، ويستفز الفقراء بصور الدولارات، ثم يبرر كل ذلك بعبارة مكررة: "ثقة في الله نجاح"، وكأن النرجسية مرضية والله تعالى صار ممولاً لسوق المخدرات الرخيصة. ما يفعله السرسجي رمضان ليس مجرد غرور شخصي عابر، بل استعراض نرجسي مؤسسي ومعمّم: لقد أدرك أن المجتمع المهزوم يصفق لمن يهينه كالعبد الذي يقبّل سوط سيده، وأن الفقير المفتون بالمال يغفر كل الموبقات مقابل وهم القدرة على التشبه بالغني. فصار كل استعراض فضيحة، وكل فضيحة ترند، وكل ترند نافذة زجاجية جديدة في قصر الخراب القيمي. ومما يثير الحيرة ويدعو إلى اليأس ذلك السؤال الذي لا ينطفئ: كيف يُسمَح لرمضان لسنوات بالتقليل من شأن زملائه، بتضخيم ذاته، بالتلويح بالدولارات في وجه مجتمع جائع، بإهانة المهن والتقاليد، من دون عقاب مؤثر؟ لماذا في كل مرة تنتهي المعركة بـ"تحقيق" لا نسمع نتائجه، كأنه قبر حُفر في الهواء، ثم عودة "النمر" ليمارس ذات الدور بشراسة أكبر كأنه لم تلمسه يد العتاب؟ إنّ عبده موتة، ورفاعي الدسوقي، وجعفر العمدة تشبه ثلاثية الموت الحضاري: عقل مغيّب، سلاح متاح، نصر بلا قيمة. ثلاثية واحدة متكررة تشبه تكرار كابوس الإعدام: بلطجي منتصر، قانون مهزوم، عنف مبرر. لكن المفزع ليس في الشخصيات، بل في تقبّل الجمهور لها كقدوة، كمريض مصاب بمتلازمة ستوكهولم: يقع في غرام خاطفه. أن يتمنى طفل أن يصير بلطجياً محترفاً، لا طبيباً أو عالماً، فتلك مأساة مجتمع لا يبحث عن عقاقير تعالجه، بل يطلب مخدراً ليزيد من سكره الأخلاقي وغيبوبته الثقافية. في بلدٍ أنجب مجدي يعقوب وأحمد زويل ونجيب محفوظ، كيف ينحدر الحلم ليصبح جعفر العمدة هو المثل الأعلى؟ في أرض أنتجت فريد الأطرش وعبد الوهاب وأحمد فؤاد نجم، كيف يغدو رجل يلوح بالدولارات ويرتدي "ستيانة" من ذهب هو نموذج النجاح؟ إنه الانهيار التاريخي للنماذج المرجعية، حيث تتراجع صورة العالِم والطبيب والفنان الحقيقي لتحل محلها طبقة من المُحدَثين النعمة المتشبعين بعقدة النقص والاستعراض المرضي. من "زويل" إلى "رفاعي"، مسافة تقيس سقوط حضارة. ذاك أنّ استبدال الوعي الجمعي بأخلاق "البلطجة-السرسجيه" مهمة يستحيل إيكالها للمصادفة؛ فتحويل السرسجي إلى مايشبه بمن اجرى عملية تحول جنسي كاملة، هي مهمة دقيقة تشبه عملية زرع ورم خبيث، تستلزم تضافر المال والإعلام والصناعة والخبث اليساري، ضد شيء واحد هو الذائقة الراقية. فكما تتناقض البالوعة مع الزهور، وكما تتناقض الفوضى مع القانون، تتناقض البلطجة مع النهضة، ويتناقض الخراب القيمي مع أي مشروع للتقدم. حين يغيب المعلم الحقيقي من المدرسة، يدخل المهرج إلى الشاشة ليلعب دور المُرشد، ويصبح قاطع الطريق مؤهلًا ليكون دليلًا لجيل تائه. ذاك أنّ منظومة التعليم المتهاوية تركت فراغاً هائلاً في تشكيل القدوة، ليملأه لاحقاً "أسطورة" مصنوع على عجل كسلعة استهلاكية رديئة. في غياب وثيقة تربوية تستعيد الاعتبار للقيمة، وفي ظل مناهج تعليمية تحوّلت إلى كهوف للحفظ الأعمى، صار التلميذ مهيّأً لعبادة النموذج المضاد الذي يعده بالخلاص السريع من متاهة الفقر والتهميش. لقد استُبدلت القدوة الراقية بالبطل الشعبي العنيف، وسُحقت مفاهيم التواضع والشرف لصالح قوة العضلة والصوت العالي. كأننا مجتمع مصاب بانتكاسة تطورية، يتراجع من الإنسان إلى القرد، ومن القرد إلى خفاش الكهوف. من المسؤول؟ رمضان وحده؟ أم المنظومة التي صنعته وضخّمته كالورم؟ أم الذين صفقوا له في كل انحدار نحو الهاوية؟ ما كان لمحمد رمضان أن يتحول إلى ظاهرة أخطبوطية لولا إعلام مُتواطئ يلهث وراء الفضيحة كذئب جائع. بعد كل كارثة أخلاقية، تُفتح له الأبواب: كليبات، لقاءات، دعايات. يُهاجم في الصباح ويُمجد في المساء. إعلاميون يحاربونه بألسنتهم ثم يستضيفونه بأجسادهم بذريعة أن "الأرقام لا تكذب"، كما لو أن الجريمة تصبح فضيلة حين ترتفع إحصاءاتها ويتضاعف عدد ضحاياها. إنها معادلة الإلهاء الكبرى؛ صناعة متعمدة لـ"نموذج" ممسوخ يتصارع معه المجتمع كي لا يتصارع مع أسئلته الحقيقية؛ تماماً كمن يرمي قطعة لحم فاسدة لكلاب الصيد كي تتعارك عليها وتنسى صيد الغزلان؛ فعندما يُشغَل ملايين المصريين بمناقشة "ستيانة" رمضان الذهبية، يُحرمون من فرصة التفكير في سبب انهيار عملتهم، أو تدهور تعليمهم، أو اهتراء خدماتهم الصحية. في لحظة ما، تحوّل رمضان من فنان إلى مخدر بصري: يخدر العقل بالغضب، والفقر بالوهم، والإحباط بالاستعراض الفارغ، كساقي خمر يتاجر بالنسيان في معسكرات الموت. والمفارقة هي أن محمد رمضان، برغم كل الانتقادات والفضائح، لا يزال نجماً لامعاً، ومنتجاً اقتصادياً مربحاً. وكأننا في سوق الظلام: كلما ارتفعت نسبة السم في البضاعة، تضاعف سعرها. وهنا يكمن لب المأساة: لقد أصبح رمضان "منتجاً" بيولوجياً تستثمر فيه منظومة كاملة كالفطر الطفيلي الذي يتغذى على جثّة الوعي. رأس المال الثقافي الذي يدفع "الأسطورة" إلى مهرجانات عالمية عالِم بأنّه يروّج لنموذج يؤذي المجتمع. لكنّه يفعل ذلك لأنّ النموذج التافه يباع أسرع وأسهل من النموذج الرصين، تماماً كما يبيع تاجر المخدرات بضاعته للأطفال دون اكتراث لما ستفعله فيهم. إن البلطجة الثقافية لا تعترف بالحدود الجغرافية، وسُمّ محمد رمضان انتقل عبر الشاشات إلى العراق والمغرب و الشام، حيث بات صوته نشازاً يسرق الأضواء من الفن النظيف. تحوّل "نمبر وان" إلى ظاهرة عابرة للقارات، تغزو كل بلد فيه جاليه مصرية كبيرة، مقدمة نموذجاً مصدّراً للفنان القذر الذي يُمنح الصف الأول وينتزع أمكنة الموهوبين الحقيقيين. هي العدوى ذات تأثير الدومينو؛ إذ بدأنا نرى كيف تستنسخ الشاشات العربية نماذج مشابهة تكفي نظرة خاطفة لملاحظة كيف تتحول أعمالهم وكليباتهم إلى محاكاة خرقاء للنموذج المصري المتمرد على القيم والذوق السليم.
جمهور رمضان ليس مجرد معجبين عاديين، بل ضحايا حملة "غسيل مخ" جماعي، كقبيلة تأكل لحوم البشر بإيمان راسخ بأنها تكتسب قوتهم. ففي زمن السوشيال ميديا، صار الترند هو المعيار، والشخص "الترند" هو الأعلى شأناً، حتى لو كان هذا الترند هو الاستلقاء في برك البراز. لا يهم أن تكون مفيداً، المهم أن تكون مثيراً للجدل، وهي معادلة أتقنها رمضان حين قال بوقاحة المنتصر: "أنا مصر". فعلاً هو "مصر" المريضة التي نخجل من النظر في مرآتها المتشظية محمد رمضان ليس المشكلة، وإن كان سفيراً مؤهلاً لها كالبعوضة المثالية لحمل الملاريا. المشكلة الحقيقية هي منظومة تحتاج إلى أن ينشغل المجتمع بـ"عبده موتة" وأمثاله، بدلاً من الانشغال بأسئلة الحرية والكرامة والعدالة. المشكلة في آباء يتركون أبناءهم "للفرعون صاحب الصديرية" يصوغ قناعاتهم بالحياة، كمن يترك طفله الرضيع لذئب جائع ليعلمه فنون التربية، ثم يصدمون حين يسلك هؤلاء الأبناء طريق البلطجة والسرسجيه وكأنهم فوجئوا بأن النار تحرق من يلمسها. إن محمد رمضان ليس مجرد ظاهرة فنية، بل اختبار حضاري قاسٍ كاختبار الاستسقاء للمصابين بفشل الكِلى. هو مرآتنا الصدئة التي نرفض أن ننظر فيها، ونكسرها كلما أظهرت لنا قبح وجوهنا الحقيقية. قد لا يكون وحده السبب في انحدار الذوق، لكنه صار العَرض الأبرز لأمة بدأت تستبدل القدوة بالترند، والرسالة باللايك، والحب بالشهوة، والنجاح بالظهور، والحقيقة بالوهم المزخرف. لنسأل أنفسنا، إذن، بشجاعة المُحتضر الذي لم يعد لديه ما يخسره: هل "نمبر وان" ظاهرة عابرة، أم نتيجة طبيعية لتراجع القيم العلمية والأخلاقية كالدمّل الذي يظهر في الجسد المنهك؟ هل هو المشكلة الرئيسية، أم مجرد عَرَض لمرض أعمق يصيب جسد المجتمع كالديدان التي تتغذى على الجثث المتحللة؟ إذا كان الجواب هو الأخير – وأغلب الظن أنه كذلك – فمحمد رمضان ليس سوى المرآة القبيحة التي نكره أن نرى فيها وجهنا الحقيقي: مجتمع تراجع ليقدّس القوة كالوحش، وتقهقر ليعبد المال كالممسوس، وتخلّى عن قيمه ليصفّق للمهرّج بدلاً من العالِم، وللقواد بدلاً من المعلم، وللص بدلاً من القاضي. ولا يُرجى من صديرية ذهبية أن تحمي صاحبها من حقيقة مرّة تشبه طعم الموت: أن المصري السرسجي لا يصير فرعوناً بمجرد ارتدائه لباس راقصة، كما لا يصير القرد إنساناً بارتداء بدلة وربطة عنق. حقيقة "نمبر وان" أنه "زيرو" ثقافي في معادلة حضارية تحتاج إلى أبطال حقيقيين، لا بلطجية يرقصون على أنقاض الوعي المصري ويمارسون الدعارة الثقافية باسم الفن والتراث، كما مارسها المماليك حين أكلوا لحم مصر العظيمة وارتدوا عباءة الحضارة المنهوبة. في المحصلة، سيمر محمد رمضان كما مرت موجات كثيرة قبله، لكن ما سيتبقى هو الخراب الذي خلّفه في العقول والذائقة. فالنار تطفأ والسيف يصدأ والثعبان يموت، أما السموم التي تدس في ثقافة المجتمع فتبقى تنخر في جسده لعقود. وحين يسأل المؤرخون يوماً عن سر تراجع ثقافة أنتجت نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم حافظ، ستكون إجابتهم بسيطة: لأنهم استبدلوا الذهب بالصفيح اللامع، والفن بالضجيج، والمحتوى بـ"الترند". وفي لحظة غفلة تاريخية، تركوا لـ"عبده موتة" أن يكتب وصيتهم الحضارية على صديرية من ذهب مزيف، ويرفع العلم المصري - الذي ارتفع يوماً شامخاً فوق خط بارليف بأيدي الرجال - على منصة كوتشيلا كرايةٍ مهزومة تُعلن عن انتصار البلطجة على أصالة النيل. تلك هي مفارقة التاريخ القاسية: حين تسلّم العِلم إلى السرسجي، وتحوّل البطل إلى راقصة، وتصير الحضارة التي بنت الأهرامات مجرد ترند عابر في ليلة مخمورة على مسرح تترنح عليه كرامة أمة.
14 دقيقة قراءة
الكاتب
اينشتاين السعودي
@SaudiEinestine
مشاركة المقالة عبر
Leaving SaudiEinsteinYour about to visit the following urlInvalid URL