من بطرس الأكبر إلى محمد بن سلمان: قراءة في كتاب كارين إليوت هاوس الجديد
ثمة في توقيت صدور كتاب كارين إليوت هاوس عن الأمير محمد بن سلمان ما يتجاوز المصادفة السعيدة. فبينما تُعيد القوى الكبرى حساباتها في شرق أوسط تهاوت فيه أوهام "محور المقاومة" كأوراق الخريف، تأتي صاحبة أطول تجربة صحفية أمريكية في تغطية الشأن السعودي – خمسة وأربعون عاماً كاملة – لتُقدم شهادتها على أعمق تحول شهدته المملكة في تاريخها الحديث. والحال أن هاوس، الحائزة على جائزة بوليتزر عام 1984 عن تغطيتها للشرق الأوسط، ليست مجرد مراقبة عابرة؛ إنها شاهدة عايشت السعودية منذ عام 1978، من أيام الانفتاح النسبي قبل الصحوة، مروراً بعقود الانغلاق والتشدد، وصولاً إلى الانقلاب الدراماتيكي الذي يقوده اليوم سمو ولي العهد. ولاشك أن كتابها "عن السعودية" الصادر عام 2012 لا يزال مرجعاً مهماً، مما يجعل روايتها الجديدة – النشطة والمبنية على مصادر واسعة – مرجعاً لفهم شخصية الزعيم السعودي.
يكتسب الكتاب أهميته الاستثنائية من كونه يأتي من قلم كاتبة تجمع بين العمق الأكاديمي والخبرة الميدانية، مما يجعل شهادتها وثيقة تاريخية لا مجرد تحليل صحفي عابر. وإذ تفتتح هاوس كتابها بمقارنة لافتة بين محمد بن سلمان وبطرس الأكبر، قيصر روسيا الذي فرض التحديث على بلاده في القرن الثامن عشر، فإنها تضع إصبعها على جوهر المسألة: كلاهما مُحدث يواجه مجتمعاً تقليدياً مُتكلساً، وكلاهما يرى في القوة المُركزة السبيل الوحيد لكسر جمود القرون. بيد أن الفارق الجوهري، والذي تُبرزه الكاتبة ببراعة، يكمن في أن بطرس كان يحلق لحى النبلاء ويفرض الأزياء الأوروبية قسراً، بينما الأمير محمد بن سلمان يُعيد للسعوديين حقهم في الاختيار، اختيار نمط حياتهم، اختيار مستقبلهم، اختيار هويتهم المُركبة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
ذاك أن عبقرية الأمير الشاب، كما تُظهر هاوس بتفصيل مُذهل، تكمن في قدرته على تقديم مشروعه التحديثي ليس كقطيعة مع الماضي أو استيراد لنموذج غربي، بل كاستعادة للروح الحقيقية للإسلام قبل أن تختطفه موجات التشدد. فهو لا يدعو إلى التخلي عن الدين، بل إلى استعادة الإسلام الوسطي الذي عرفته البلاد قبل 1979، كما توحي رؤيته وممارساته السياسية والاجتماعية. وقد سحب البساط من تحت أقدام المتشددين من خلال إعادة هيكلة المؤسسة الدينية، وإعادة ضبط الصلاحيات المختلّة سابقًا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مؤكداً على "التعريف الطبيعي للمسلم" مقابل التشدد الذي ساد لسنوات. وهذا المنطق الذكي يجعل من الصعب على المتشددين مقاومة التغيير، لأنه يأتي ملفوفاً بعباءة الأصالة لا التغريب.
وتروي هاوس كيف كسر ولي العهد كل التقاليد الملكية المتشددة التي لا تنسجم مع العصر. فهو يقود مركبة رملية في مزار سياحي، ويلتقط صور "سيلفي" في المطاعم، ويحضر سباق سيارات كهربائية مرتدياً – كما تصف هاوس – "جاكيت باربور كحلي اللون فوق ثوبه التقليدي، ونظارات شمسية من توم فورد، وحذاء أديداس ييزي بوست 350". هذه التفاصيل ليست مجرد مظاهر سطحية، بل رسائل عميقة عن قائد يفهم لغة جيله ويتحدثها بطلاقة.
وفي سردها الآسر للتحولات الاجتماعية، تروي هاوس كيف انقلبت السعودية من بلد كانت فيه الشرطة الدينية تُطارد الناس في المولات – وتستحضر هنا تجربتها الشخصية المريرة في دانكن دونتس حين أُمرت بتغطية رأسها بقسوة واقتيد مُترجمها إلى مقر الهيئة، إلى بلد تُقام فيه الحفلات الترفيهية والرياضية العالمية، وتمارس المرأة حقها في العمل في بيئة صحية طبيعية، وتقود فيه السيارة. لقد تجاوزت المملكة مفهوم الترفيه القديم، حيث كانت السلطات المتشددة تعتبر أي نوع منه، مشتتاً عن التركيز على العبادة! ليصبح جزءاً لا يتجزأ من جودة الحياة ومحركاً للإنتاجية والابتكار -وكأن الكاتبة تُذكرنا بلعب الأحباش بالرماح في المسجد، وسباق رسولنا الكريم مع عائشة- لكن الأهم من كل هذه المظاهر، كما تُلمح الكاتبة بذكاء، هو التحول في العقلية نفسها: من مجتمع الممنوعات إلى مجتمع الممكنات، من ثقافة الخوف إلى ثقافة الأمل، من الانكفاء على الذات إلى الانفتاح المدروس على العالم.
وتُشير هاوس إلى نقطة بالغة الأهمية حين تتناول وضع المرأة السعودية: هذا التمكين غير المسبوق للنساء ليس استجابة لضغوط خارجية أو محاولة لتحسين صورة المملكة، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية مُلحة. فكيف يمكن لأي مجتمع أن يُحقق طموحاته التنموية وهو يُعطل نصف طاقاته البشرية؟
الأمير الشاب، كما تصفه، أدرك هذه الحقيقة البديهية وتصرف بناءً عليها بشجاعة نادرة، مدفوعاً بقناعة شخصية عميقة نابعة من فهمه لتأثير التشدد على مجتمعه، مُتحدياً قروناً من التقاليد الوهمية المُتجذرة. والنتيجة، كما تُوثقها هاوس من مشاهداتها الميدانية، مُذهلة: نساء سعوديات يعملن في كل المجالات، من الطيران إلى القضاء، من الهندسة إلى الفنون، يُشكلن اليوم قوة دافعة حقيقية في مسيرة التنمية.
أما رؤية 2030، فتُقدمها هاوس ليس كمجرد خطة اقتصادية طموحة، بل كمشروع نهضة حضارية شاملة، إعادة تعريف جذرية لما يعنيه أن تكون سعودياً في القرن الحادي والعشرين. والمشاريع العملاقة – من نيوم المدينة الذكية الضخمة، إلى مشروع البحر الأحمر السياحي، إلى القدية – ليست مجرد أحلام طوباوية، بل استثمارات استراتيجية في مستقبل ما بعد النفط، تهدف إلى تحويل السعودية إلى مركز لوجستي واقتصادي عالمي يربط القارات الثلاث.
وتُبرز هاوس رؤية الأمير الاستراتيجية لتحويل الزاوية الشمالية الغربية من الجزيرة العربية، مدينة "نيوم" إلى "وادي سيليكون جديد"، يخلق وظائف للشباب السعوديين من خلال دمج المال السعودي والتكنولوجيا العالمية، ويجذب شركات التكنولوجيا الغربية لأن الطاقة رخيصة في السعودية، ليكون مكاناً حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع.
وفي تحليلها للسياق الإقليمي، تُبرز هاوس ببراعة كيف أن السعودية باتت "الفائز الصامت" من التحولات الدراماتيكية في المنطقة. فبينما تُنهك إيران ووكلاؤها أنفسهم في حروب عبثية من اليمن إلى لبنان إلى غزة، تبني المملكة مدن المستقبل وتستقطب الاستثمارات وتُطور اقتصادها وتُعزز شراكاتها الدولية. إنها استراتيجية "السعودية أولاً" التي لا تعني الانعزال أو الانكفاء، بل البراغماتية الذكية التي تضع المصلحة الوطنية فوق الشعارات الأيديولوجية الجوفاء.
وتُشير هاوس في مقابلتها الصحفية مع "وول ستريت جورنال" إلى أن الأمير محمد بن سلمان يحظى بدعم شعبي حقيقي، خاصة من الشباب الذين يُشكلون أغلبية السكان. فهو بالنسبة لهم ليس مجرد أمير آخر من الجيل القديم، بل "واحد منهم"، شاب طموح وملهم يفهم تطلعاتهم ويُشاركهم أحلامهم. وبعد أربعة عقود من حكم الملوك كبار السن؛ جاء هذا الأمير الشاب ليُحول السعودية، كما قالت هاوس، من "فيلم صامت" إلى مشهد حيوي نابض بالحياة والأمل.
لكن الكتاب لا يُغفل التحديات والمخاطر. فالتحول الذي تشهده المملكة ليس نزهة في حديقة، بل معركة حقيقية ضد قوى الجمود والتخلف، ضد مصالح راسخة وعقليات مُتحجرة. وحادثة الريتز كارلتون، التي يراها البعض عملاً استبدادياً، تضعها هاوس في سياقها الصحيح: كسر شوكة النخبة الفاسدة التي طالما عرقلت أي محاولة جدية للإصلاح. وهنا يبرز السؤال الصعب: هل يمكن تحقيق تحول جذري دون قدر من الحسم؟ هل يمكن بناء المستقبل دون هدم أسوار الماضي الذي يفرض جموداً يعيق التقدم؟ جيل الرؤية سيكون ردهم: لا.
وتُشير هاوس إلى أن محمد بن سلمان يتبع استراتيجية رهانات متعددة على قطاعات المستقبل، يدرك أن بعضها سيفشل، وبعضها سينجح جزئياً، والبعض الآخر قد يحقق نجاحاً كبيراً. إنها رهانات استراتيجية موزونة على التنوع الاقتصادي، وليست مقامرة عشوائية. ومع ذلك تصفه بأنه شخصية جبارة مصممة على فرض إرادتها، لا يقل تصميماً عن بطرس الأكبر الذي بنى مدينة سان بطرسبورغ في المستنقعات الشمالية رغم كل الصعوبات.
والحق أن أحد أهم ما يُميز هذا الكتاب هو قدرة مؤلفته على الموازنة بين النقد والإنصاف. فهي لا تُنكر وجود قيود على الحريات السياسية بتلمفهوم الغربي، لكنها تضع هذه القيود في سياقها المحلي والإقليمي الصحيح. وهي تنقل أيضاً مشاعر الفرح لدى جيل سعودي شاب بات يعيش حياة أقرب كثيراً إلى "الطبيعية" بمقاييس العالم. وهي تُذكر القارئ بأن ما تحقق في خمس سنوات يفوق ما حققته دول أخرى في خمسة عقود. وربما كان هذا الإنصاف، النادر في الكتابات الغربية عن السعودية، هو ما يجعل من شهادة هاوس وثيقة تستحق القراءة والتأمل.
يأتي كتاب: "الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً" في وقته تماماً، ليس فقط كشهادة على لحظة تاريخية فارقة، بل كدليل لفهم التحولات العميقة التي تعيد تشكيل الشرق الأوسط. وكارين إليوت هاوس، بخبرتها الطويلة وعينها الثاقبة، تُقدم لنا أكثر من مجرد سيرة ذاتية لعراب الرؤية وصانعها؛ إنها تُقدم قصة أمة تنهض من سبات القرون، تُعيد اكتشاف ذاتها، وتبني مستقبلها بأيديها.
وفي زمن تتهاوى فيه الأوهام وتسقط الشعارات الزائفة، تبرز السعودية كنموذج للتحول المدروس، الذي لا يتنكر للهوية لكنه لا يجعل منها قيداً، والذي يحترم التراث لكنه لا يجعل منه سجناً. وما دامت البوصلة واضحة، فإن المدى مفتوح: نحو علم يتقدم، وثقافة تُصقل، ومجتمع يُنتج، ودولة تُلهم... نحو ما لم نحلم به بعد.