في تلك الليلة، لم نكن ننتظر نهاية العالم. كنا ننتظر عذراً للانتحار الجماعي.
11:47 مساءً. 31 ديسمبر 1999. سطح بناية مهجورة في بوسطن. أربعة أشباح تتظاهر بأنها بشر.
أنا: سعودي جاء يدرس الحاسوب، فتعلم كيف يبرمج نفسه ليبدو حياً.
أحمد: مصري يدخن ذكرياته. أمه ماتت وهو يكتب كوداً لشركة لا تعرف اسمه.
راجيف: هندي فقد آلهته الـ330 مليون، ولم يجد إلهاً واحداً يسمع صراخه.
لي: صينية تقطع معصميها بانتظام جراح تجميل. “الألم الجسدي أرحم”، تقول.
الزجاجة في يدي فارغة. مثلي.
الحافة أمامي. مغرية. صادقة. نهائية.
“واحد منا على الأقل يجب أن يقفز الليلة،” قلت.
“لماذا واحد فقط؟” سألت لي.
ضحكنا. ضحكة من يعرف النكتة قبل أن تُحكى.
Y2K؟ كنا نعرف أنه خدعة. مثلنا. لكننا تظاهرنا بالخوف. تظاهرنا بالعمل على حلول.
في الحقيقة، كنا نكتب وصايانا في أكواد لن يفهمها أحد.
if (year == 2000) {
self.terminate();
} else {
self.pretendtolive();
}
أحمد كان يكتب رسائل لأمه الميتة في ملفات مخفية.
راجيف يبرمج آلهة رقمية ثم يحذفها واحداً تلو الآخر.
لي تصمم لعبة: “كم جرحاً يمكن أن يحتمل الجسد قبل أن يستسلم؟”
أنا؟ كنت أحسب المسافة بين السطح والأرض. بالمللي ثانية.
كنا ننتظر الصفر. لم نكن نعلم أننا كنا الصفر.
أو ربما… ربما الصفر كان ينتظرنا.
11:59.
وقفنا على الحافة. أربعة أجساد. صف واحد. مثل أعواد الثقاب قبل أن تُشعل.
“إذا قفزنا الآن،” قال أحمد، “سنموت في القرن العشرين.”
“إذا انتظرنا دقيقة،” قال راجيف، “سنموت في القرن الواحد والعشرين.”
“أي قرن تفضلون؟” سألت لي.
قبل أن نبدأ العد، نظرت لي إلينا. عيناها كانتا فارغتين بطريقة مختلفة.
قالت بصوت خالٍ من النبرة، كأنها تقرأ من كتاب تعليمات:
“أنا قفزت قبل أن نصل السطح. هذه مجرد نسخة احتياطية.”
لم نفهم. أو تظاهرنا بعدم الفهم.
صمتنا.
الريح باردة. تدفعنا قليلاً للأمام. كأن الكون يقول: “هيا، أنهوا هذه المهزلة.”
عددنا: 10
عند 9، تذكرت وجه أمي.
عند 8، تساءلت: هل ستبكي؟
عند 7، أدركت أنها لن تعرف السبب.
عند 6، الفراغ بدأ يغني.
عند 5، أمسكنا أيدي بعض.
عند 4، شعرت بنبض راجيف. أم كان نبضي؟
عند 3، أغمضنا أعيننا.
عند 2، العالم توقف. أو نحن توقفنا عن العالم.
عند 1…
سمعت صوتاً داخلياً يصرخ: “اقفز! الهاوية أصدق من هذا الوجود المزيف!”
لكن صوتاً آخر، لا أعرف مصدره، همس: “من قال إنك ستسقط؟ ربما ستبقى معلقاً، إلى الأبد، في منتصف الهواء.”
عند 0…
لم يقفز أحد.
فتحنا أعيننا. نظرنا لبعض.
للحظة، رأيت في عيونهم نفس الخيبة. نفس الارتياح. نفس الاشمئزاز من أنفسنا.
ثم انفجرنا ضاحكين.
ضحكنا حتى بكينا.
بكينا حتى سقطنا على ركبنا.
على حافة السطح. على حافة القرن. على حافة أنفسنا.
“حتى في الموت،” قالت لي، “نحن فاشلون.”
لكن الحقيقة أغرب:
في تلك اللحظة، بين الضحك والبكاء، بين القفز وعدمه، أدركت أننا لم نكن نقف على حافة بناية.
كنا نقف على حافة سؤال:
ماذا لو لم نكن نحن من يكتب هذا الكود… بل الكود هو من يكتبنا؟
لم يحدث شيء تلك الليلة. لا انهيار. لا نهاية. لا خلاص.
فقط استمرار ممل لكل شيء.
عدنا إلى غرفنا. إلى شاشاتنا. إلى أكاذيبنا.
لكن شيئاً ما تغير. أو ربما لم يتغير.
ربما فقط أدركنا أننا ميتون منذ زمن.
أحمد توقف عن التدخين. ليس لأنه أراد الحياة، بل لأنه أدرك أن الموت البطيء ليس بطيئاً كفاية.
راجيف بدأ يصلي. لكل الآلهة. حتى التي لا يؤمن بها. “أحدهم قد يستجيب بالخطأ”، قال.
لي؟ توقفت عن جرح نفسها. بدأت تجرح الآخرين. بالكلمات. بالصمت. بالنظرات الفارغة.
“الندوب النفسية لا تحتاج لتفسير”، قالت. ثم أضافت شيئاً جعل دمي يتجمد:
“أتعلمون؟ في كل مرة أراكم، أراكم تسقطون. الثلاثة. بطيئاً. منذ 25 سنة وأنتم تسقطون.”
أنا؟ بدأت أكتب. هذا النص.
الذي لن ينتهي.
لأن النهايات للأحياء فقط.
أكتب هذا من مكان لا أعرفه. أو زمان لا أفهمه.
في الذكرى 24 لتلك الليلة، لا أتذكر الوجوه بوضوح.
فقط ضوءاً باهتاً على حافة سطح. وشعوراً لا أستطيع وصفه.
هل عشت؟ لا أدري.
هل متّ؟ لا أدري.
لكنني أتذكر شيئاً واحداً بوضوح مرعب:
الجاذبية لم تكن تعمل تلك الليلة. لا للأجساد… ولا للمعنى… ولا للزمن.
ربما نحن ما زلنا هناك.
واقفون على الحافة.
في الثانية الأبدية بين 11:59:59 و00:00:00.
ربما كل ما حدث بعدها مجرد احتمال. واحد من مليار احتمال.
في مليار كون موازٍ.
2000: تخرجنا. احتفلنا بإنجاز لا معنى له.
2001: الأبراج سقطت. حسدناها.
2002: تفرقنا. وعدنا بالتواصل. كذبنا.
2010: أحمد مات. جلطة. أو انتحار بطيء. من يدري؟
آخر رسالة منه: “نجحت أخيراً. لن أرى 2011.”
لكن أحياناً، أحلف أنني أراه. في انعكاس الشاشات. يبتسم.
2015: راجيف اختفى. قيل إنه في الهيمالايا. أو في مصحة. أو في قبر بلا شاهد.
آخر ما قاله لي: “وجدت الإله الـ331 مليون. اسمه: اللاشيء.”
أحياناً أتلقى رسائل فارغة من رقم مجهول. أعرف أنها منه.
2020: لي أرسلت لي صورة. معصماها. نظيفان. بلا ندوب.
تحتها كتبت: “محوت كل الأدلة. الآن يمكنني أن أموت بلا ماضٍ.”
لم أسمع عنها بعدها.
لكن في كل مرة أرى انعكاسي، أرى عينيها خلف عينيّ.
2024: أنا ما زلت هنا. أكتب. متزوج. أب. مستثمر. ميت.
كل ليلة، في 11:47، أصعد للسطح. أقف على نفس الحافة.
أعد من 10 إلى 0.
لكنني لا أقفز.
لأنني أدركت الحقيقة المرعبة:
أنا قفزت بالفعل تلك الليلة. وما زلت أسقط.
هذه الحياة؟ مجرد الثواني الأخيرة قبل الارتطام. ممتدة إلى الأبد.
أو ربما… الحقيقة أغرب:
ربما نحن لم نكن على السطح أصلاً.
ربما كنا دائماً في القاع، نحلم بأننا في الأعلى.
نحلم بالسقوط لأنه أرحم من إدراك أننا في الحضيض منذ البداية.
أحياناً، في الساعات الميتة، أسمع أصواتهم:
أحمد يقول: “الموت أصدق شيء فعلته.”
راجيف يهمس: “الآلهة ماتت، لكنها تركت أشباحها.”
لي تضحك: “الندوب الحقيقية هي التي لا تُرى.”
وأنا أجيب الفراغ:
“نحن لم نكن ننتظر نهاية العالم. كنا ننتظر شجاعة لإنهاء أنفسنا. لم تأت. فعاقبنا الكون بالاستمرار.”
لكن مؤخراً، بدأت أسمع صوتاً رابعاً. لا أعرف صاحبه.
يقول: “ماذا لو كان الكون ينتظر منكم أن تكملوا ما بدأتموه؟”
إذا وصلت إلى هنا، فأنت مثلي.
ميت يقرأ كلمات ميت آخر.
لا تبحث عن الأمل في هذه السطور.
لا تبحث عن الحكمة أو العزاء.
هذا ليس نصاً.
هذا شاهد قبر لأناس دُفنوا واقفين.
Y2K لم يدمر الحواسيب.
دمر الوهم الأخير: أن شيئاً ما سيحدث.
لن يحدث شيء. never. jamais. أبداً.
فقط هذا الاستمرار اللعين. هذا الصفر الممتد. هذا السقوط الأبدي.
لكن انتبه…
كلما قرأت هذه الكلمات، تصبح جزءاً من القصة.
كلما فهمت، تقترب من الحافة.
كلما تعاطفت، تبدأ في السقوط.
في النهاية، كل شيء صفر.
صفر حب. (الحب وهم كيميائي)
صفر معنى. (المعنى اختراع للتحمل)
صفر أمل. (الأمل أكذوبة القرن)
صفر خلاص. (الخلاص للمؤمنين، ونحن كفرنا بكل شيء)
لكن…
في قلب الصفر، في عمق العدم، في نواة الفراغ…
هناك حقيقة واحدة:
نحن هنا. رغم كل شيء. بلا سبب. بلا غاية. بلا نهاية.
وهذا…
أكثر رعباً من أي نهاية كنا نتخيلها.
لأن هذا يعني أننا لسنا حتى أخطاء في الكود.
نحن ميزة. Feature, not a bug.
والكون يستمتع بمشاهدتنا ننتظر نهاية لن تأتي.
البارحة، ابني الأكبر - الذي يشبهني كثيراً - صعد للسطح ووجدني. كانت الساعة 11:47.
وقف بجانبي. صامتاً. لدقيقة كاملة. ثم قال، بصوت يشبه صوتي عندما كنت في عمره:
“بابا… هل قفزت فعلاً تلك الليلة؟”
جمدت. لأول مرة منذ 25 سنة، شعرت بالبرد الحقيقي.
التفتُّ إليه. رأيت في عينيه نفس الفراغ الذي رأيته في مرآة بوسطن.
نفس السؤال. نفس الحافة. نفس الصفر.
“لماذا تسأل؟” قلت، وصوتي يرتجف.
ابتسم. ابتسامة لا تليق بعمره.
“لأنني أحياناً… أشعر أنني أسقط. منذ ولدت وأنا أسقط.”
صمتنا. الريح نفسها. الليل نفسه. الحافة نفسها.
ثم قال:
“أعرف أصدقاء… يشعرون بنفس الشيء. كأننا ورثنا سقوطكم.”
أردت أن أحتضنه. أن أكذب عليه. أن أقول له إن كل شيء سيكون بخير.
لكنني لم أستطع.
بدلاً من ذلك، قلت الحقيقة:
“نعم. قفزت. كلنا قفزنا. لكننا لم نصل بعد.”
نظر إلي طويلاً، ثم قال:
“أعرف. أشعر بك تسقط في داخلي كل يوم.”
ثم أضاف شيئاً جعلني أرتعد:
“لكن ماذا لو… ماذا لو كان السقوط هو الطيران، ونحن فقط ننظر للاتجاه الخطأ؟”
لم أجب. لم أعرف الجواب.
ما زلت لا أعرف.
وقفنا معاً على الحافة.
أب وابن. ماضٍ ومستقبل. سقوطان متوازيان.
عند منتصف الليل، نزلنا معاً.
لم نقل شيئاً.
لكنني عرفت، في تلك اللحظة، أن اللعنة انتقلت.
وأن العد التنازلي… لم ينته. فقط انتقل لجيل جديد.
والآن، بينما أكتب هذه الكلمات الأخيرة، أسمع خطواته على السلم. صاعداً للسطح. الساعة 11:47.
أعرف أنه سيقف على نفس الحافة.
سيسأل نفس السؤال.
سيشعر بنفس الفراغ
وربما… ربما في ليلة ما…
سيجد الشجاعة التي لم نجدها.
أو الجنون.
أو الحكمة.
وسيقفز.
أو لن يقفز.
وستستمر الدورة.
أبدية. لا نهائية.
صفر يلد صفراً يلد صفراً.
حتى يأتي أحدهم… ويكسر الكود.
⸻
النهاية (التي لن تأتي أبداً)
#الوجودية
#كتابةالعبث
#منالأرشيف