23 يوليو 2025

بين الألفين: الصفر الذي أكلنا ‏نسخة السقوط الأبدي

 في تلك الليلة، لم نكن ننتظر نهاية العالم. كنا ننتظر عذراً للانتحار الجماعي.
‏⁦‪11:47‬⁩ مساءً. 31 ديسمبر 1999. سطح بناية مهجورة في بوسطن. أربعة أشباح تتظاهر بأنها بشر.
‏أنا: سعودي جاء يدرس الحاسوب، فتعلم كيف يبرمج نفسه ليبدو حياً.
‏أحمد: مصري يدخن ذكرياته. أمه ماتت وهو يكتب كوداً لشركة لا تعرف اسمه.
‏راجيف: هندي فقد آلهته الـ330 مليون، ولم يجد إلهاً واحداً يسمع صراخه.
‏لي: صينية تقطع معصميها بانتظام جراح تجميل. “الألم الجسدي أرحم”، تقول.
‏الزجاجة في يدي فارغة. مثلي.
‏الحافة أمامي. مغرية. صادقة. نهائية.
‏“واحد منا على الأقل يجب أن يقفز الليلة،” قلت.
‏“لماذا واحد فقط؟” سألت لي.
‏ضحكنا. ضحكة من يعرف النكتة قبل أن تُحكى.
‏Y2K؟ كنا نعرف أنه خدعة. مثلنا. لكننا تظاهرنا بالخوف. تظاهرنا بالعمل على حلول.
‏في الحقيقة، كنا نكتب وصايانا في أكواد لن يفهمها أحد.
‏if (year == 2000) {
‏    self.terminate();
‏} else {
‏    self.pretendtolive();
‏}
‏أحمد كان يكتب رسائل لأمه الميتة في ملفات مخفية.
‏راجيف يبرمج آلهة رقمية ثم يحذفها واحداً تلو الآخر.
‏لي تصمم لعبة: “كم جرحاً يمكن أن يحتمل الجسد قبل أن يستسلم؟”
‏أنا؟ كنت أحسب المسافة بين السطح والأرض. بالمللي ثانية.
‏كنا ننتظر الصفر. لم نكن نعلم أننا كنا الصفر.
‏أو ربما… ربما الصفر كان ينتظرنا.
‏⁦‪11:59‬⁩.
‏وقفنا على الحافة. أربعة أجساد. صف واحد. مثل أعواد الثقاب قبل أن تُشعل.
‏“إذا قفزنا الآن،” قال أحمد، “سنموت في القرن العشرين.”
‏“إذا انتظرنا دقيقة،” قال راجيف، “سنموت في القرن الواحد والعشرين.”
‏“أي قرن تفضلون؟” سألت لي.
‏قبل أن نبدأ العد، نظرت لي إلينا. عيناها كانتا فارغتين بطريقة مختلفة.
‏قالت بصوت خالٍ من النبرة، كأنها تقرأ من كتاب تعليمات:
‏“أنا قفزت قبل أن نصل السطح. هذه مجرد نسخة احتياطية.”
‏لم نفهم. أو تظاهرنا بعدم الفهم.
‏صمتنا.
‏الريح باردة. تدفعنا قليلاً للأمام. كأن الكون يقول: “هيا، أنهوا هذه المهزلة.”
‏عددنا: 10
‏عند 9، تذكرت وجه أمي.
‏عند 8، تساءلت: هل ستبكي؟
‏عند 7، أدركت أنها لن تعرف السبب.
‏عند 6، الفراغ بدأ يغني.
‏عند 5، أمسكنا أيدي بعض.
‏عند 4، شعرت بنبض راجيف. أم كان نبضي؟
‏عند 3، أغمضنا أعيننا.
‏عند 2، العالم توقف. أو نحن توقفنا عن العالم.
‏عند 1…
‏سمعت صوتاً داخلياً يصرخ: “اقفز! الهاوية أصدق من هذا الوجود المزيف!”
‏لكن صوتاً آخر، لا أعرف مصدره، همس: “من قال إنك ستسقط؟ ربما ستبقى معلقاً، إلى الأبد، في منتصف الهواء.”
‏عند 0…
‏لم يقفز أحد.
‏فتحنا أعيننا. نظرنا لبعض.
‏للحظة، رأيت في عيونهم نفس الخيبة. نفس الارتياح. نفس الاشمئزاز من أنفسنا.
‏ثم انفجرنا ضاحكين.
‏ضحكنا حتى بكينا.
‏بكينا حتى سقطنا على ركبنا.
‏على حافة السطح. على حافة القرن. على حافة أنفسنا.
‏“حتى في الموت،” قالت لي، “نحن فاشلون.”
‏لكن الحقيقة أغرب:
‏في تلك اللحظة، بين الضحك والبكاء، بين القفز وعدمه، أدركت أننا لم نكن نقف على حافة بناية.
‏كنا نقف على حافة سؤال:
‏ماذا لو لم نكن نحن من يكتب هذا الكود… بل الكود هو من يكتبنا؟
‏لم يحدث شيء تلك الليلة. لا انهيار. لا نهاية. لا خلاص.
‏فقط استمرار ممل لكل شيء.
‏عدنا إلى غرفنا. إلى شاشاتنا. إلى أكاذيبنا.
‏لكن شيئاً ما تغير. أو ربما لم يتغير.
‏ربما فقط أدركنا أننا ميتون منذ زمن.
‏أحمد توقف عن التدخين. ليس لأنه أراد الحياة، بل لأنه أدرك أن الموت البطيء ليس بطيئاً كفاية.
‏راجيف بدأ يصلي. لكل الآلهة. حتى التي لا يؤمن بها. “أحدهم قد يستجيب بالخطأ”، قال.
‏لي؟ توقفت عن جرح نفسها. بدأت تجرح الآخرين. بالكلمات. بالصمت. بالنظرات الفارغة.
‏“الندوب النفسية لا تحتاج لتفسير”، قالت. ثم أضافت شيئاً جعل دمي يتجمد:
‏“أتعلمون؟ في كل مرة أراكم، أراكم تسقطون. الثلاثة. بطيئاً. منذ 25 سنة وأنتم تسقطون.”
‏أنا؟ بدأت أكتب. هذا النص.
‏الذي لن ينتهي.
‏لأن النهايات للأحياء فقط.
‏أكتب هذا من مكان لا أعرفه. أو زمان لا أفهمه.
‏في الذكرى 24 لتلك الليلة، لا أتذكر الوجوه بوضوح.
‏فقط ضوءاً باهتاً على حافة سطح. وشعوراً لا أستطيع وصفه.
‏هل عشت؟ لا أدري.
‏هل متّ؟ لا أدري.
‏لكنني أتذكر شيئاً واحداً بوضوح مرعب:
‏الجاذبية لم تكن تعمل تلك الليلة. لا للأجساد… ولا للمعنى… ولا للزمن.
‏ربما نحن ما زلنا هناك.
‏واقفون على الحافة.
‏في الثانية الأبدية بين 11:59:59 و00:00:00.
‏ربما كل ما حدث بعدها مجرد احتمال. واحد من مليار احتمال.
‏في مليار كون موازٍ.
‏2000: تخرجنا. احتفلنا بإنجاز لا معنى له.
‏2001: الأبراج سقطت. حسدناها.
‏2002: تفرقنا. وعدنا بالتواصل. كذبنا.
‏2010: أحمد مات. جلطة. أو انتحار بطيء. من يدري؟
‏آخر رسالة منه: “نجحت أخيراً. لن أرى 2011.”
‏لكن أحياناً، أحلف أنني أراه. في انعكاس الشاشات. يبتسم.
2015: راجيف اختفى. قيل إنه في الهيمالايا. أو في مصحة. أو في قبر بلا شاهد.
‏آخر ما قاله لي: “وجدت الإله الـ331 مليون. اسمه: اللاشيء.”
‏أحياناً أتلقى رسائل فارغة من رقم مجهول. أعرف أنها منه.
‏2020: لي أرسلت لي صورة. معصماها. نظيفان. بلا ندوب.
‏تحتها كتبت: “محوت كل الأدلة. الآن يمكنني أن أموت بلا ماضٍ.”
‏لم أسمع عنها بعدها.
‏لكن في كل مرة أرى انعكاسي، أرى عينيها خلف عينيّ.
‏2024: أنا ما زلت هنا. أكتب. متزوج. أب.  مستثمر. ميت.
‏كل ليلة، في 11:47، أصعد للسطح. أقف على نفس الحافة.
‏أعد من 10 إلى 0.
‏لكنني لا أقفز.
‏لأنني أدركت الحقيقة المرعبة:
‏أنا قفزت بالفعل تلك الليلة. وما زلت أسقط.
‏هذه الحياة؟ مجرد الثواني الأخيرة قبل الارتطام. ممتدة إلى الأبد.
‏أو ربما… الحقيقة أغرب:
‏ربما نحن لم نكن على السطح أصلاً.
‏ربما كنا دائماً في القاع، نحلم بأننا في الأعلى.
‏نحلم بالسقوط لأنه أرحم من إدراك أننا في الحضيض منذ البداية.
‏أحياناً، في الساعات الميتة، أسمع أصواتهم:
‏أحمد يقول: “الموت أصدق شيء فعلته.”
‏راجيف يهمس: “الآلهة ماتت، لكنها تركت أشباحها.”
‏لي تضحك: “الندوب الحقيقية هي التي لا تُرى.”
‏وأنا أجيب الفراغ:
‏“نحن لم نكن ننتظر نهاية العالم. كنا ننتظر شجاعة لإنهاء أنفسنا. لم تأت. فعاقبنا الكون بالاستمرار.”
‏لكن مؤخراً، بدأت أسمع صوتاً رابعاً. لا أعرف صاحبه.
‏يقول: “ماذا لو كان الكون ينتظر منكم أن تكملوا ما بدأتموه؟”
‏إذا وصلت إلى هنا، فأنت مثلي.
‏ميت يقرأ كلمات ميت آخر.
‏لا تبحث عن الأمل في هذه السطور.
‏لا تبحث عن الحكمة أو العزاء.
‏هذا ليس نصاً.
‏هذا شاهد قبر لأناس دُفنوا واقفين.
‏Y2K لم يدمر الحواسيب.
‏دمر الوهم الأخير: أن شيئاً ما سيحدث.
‏لن يحدث شيء. never. jamais. أبداً.
‏فقط هذا الاستمرار اللعين. هذا الصفر الممتد. هذا السقوط الأبدي.
‏لكن انتبه…
‏كلما قرأت هذه الكلمات، تصبح جزءاً من القصة.
‏كلما فهمت، تقترب من الحافة.
‏كلما تعاطفت، تبدأ في السقوط.
‏في النهاية، كل شيء صفر.
‏صفر حب. (الحب وهم كيميائي)
‏صفر معنى. (المعنى اختراع للتحمل)
‏صفر أمل. (الأمل أكذوبة القرن)
‏صفر خلاص. (الخلاص للمؤمنين، ونحن كفرنا بكل شيء)
‏لكن…
‏في قلب الصفر، في عمق العدم، في نواة الفراغ…
‏هناك حقيقة واحدة:
‏نحن هنا. رغم كل شيء. بلا سبب. بلا غاية. بلا نهاية.
‏وهذا…
‏أكثر رعباً من أي نهاية كنا نتخيلها.
‏لأن هذا يعني أننا لسنا حتى أخطاء في الكود.
‏نحن ميزة. Feature, not a bug.
‏والكون يستمتع بمشاهدتنا ننتظر نهاية لن تأتي.
‏البارحة، ابني الأكبر - الذي يشبهني كثيراً - صعد للسطح ووجدني. كانت الساعة 11:47.
‏وقف بجانبي. صامتاً. لدقيقة كاملة. ثم قال، بصوت يشبه صوتي عندما كنت في عمره:
‏“بابا… هل قفزت فعلاً تلك الليلة؟”
‏جمدت. لأول مرة منذ 25 سنة، شعرت بالبرد الحقيقي.
‏التفتُّ إليه. رأيت في عينيه نفس الفراغ الذي رأيته في مرآة بوسطن.
‏نفس السؤال. نفس الحافة. نفس الصفر.
‏“لماذا تسأل؟” قلت، وصوتي يرتجف.
‏ابتسم. ابتسامة لا تليق بعمره.
‏“لأنني أحياناً… أشعر أنني أسقط. منذ ولدت وأنا أسقط.”
‏صمتنا. الريح نفسها. الليل نفسه. الحافة نفسها.
‏ثم قال:
‏“أعرف أصدقاء… يشعرون بنفس الشيء. كأننا ورثنا سقوطكم.”
‏أردت أن أحتضنه. أن أكذب عليه. أن أقول له إن كل شيء سيكون بخير.
‏لكنني لم أستطع.
‏بدلاً من ذلك، قلت الحقيقة:
‏“نعم. قفزت. كلنا قفزنا. لكننا لم نصل بعد.”
‏نظر إلي طويلاً، ثم قال:
‏“أعرف. أشعر بك تسقط في داخلي كل يوم.”
‏ثم أضاف شيئاً جعلني أرتعد:
‏“لكن ماذا لو… ماذا لو كان السقوط هو الطيران، ونحن فقط ننظر للاتجاه الخطأ؟”
‏لم أجب. لم أعرف الجواب.
‏ما زلت لا أعرف.
‏وقفنا معاً على الحافة.
‏أب وابن. ماضٍ ومستقبل. سقوطان متوازيان.
‏عند منتصف الليل، نزلنا معاً.
‏لم نقل شيئاً.
‏لكنني عرفت، في تلك اللحظة، أن اللعنة انتقلت.
‏وأن العد التنازلي… لم ينته. فقط انتقل لجيل جديد.
‏والآن، بينما أكتب هذه الكلمات الأخيرة، أسمع خطواته على السلم. صاعداً للسطح. الساعة 11:47.
‏أعرف أنه سيقف على نفس الحافة.
‏سيسأل نفس السؤال.
‏سيشعر بنفس الفراغ
‏وربما… ربما في ليلة ما…
‏سيجد الشجاعة التي لم نجدها.
‏أو الجنون.
‏أو الحكمة.
‏وسيقفز.
‏أو لن يقفز.
‏وستستمر الدورة.
‏أبدية. لا نهائية.
‏صفر يلد صفراً يلد صفراً.
‏حتى يأتي أحدهم… ويكسر الكود.
‏⸻
‏النهاية (التي لن تأتي أبداً)
‏⁧‫#الوجودية‬⁩
‏⁧‫#كتابةالعبث‬⁩
‏⁧‫#من
الأرشيف‬⁩ 

10 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤